فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [28].
{قَالَ} أي: نوح: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْْ} أي: أخبروني: {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: برهان: {مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً} أي: هداية خاصة كشفية: {مِّنْ عِندِهِ} أي: فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختاورنها، و{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: من الآية 256]، فالاستفهام للإنكار، أي: لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} [29].
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ التوحيد: {مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} قال القاشاني: أي: الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.
ثم لما بيَّن أن لا وجه لكراهة دعوته؛ إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً، فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال: {وَمَا أنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعاً لهم من الإيمان أو لأمثالهم. ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: {إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} أي: فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟.
ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان؛ إذ لا تلحقهم، بقوله:
{وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي: فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم؛ إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه؛ لذهاب عقولكم في الدنيا، أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله:

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [30].
{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً، وإنما لم يصرح به إشعاراً بأنه غني عن البيان، لاسيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟.
تنبيه:
قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيراً عادماً للجاه، متعلقاً بالحرف الوضيعة؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل، وهي نظير قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: من الآية 52].
ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [31].
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائنُ اللّهِ} أي: رزقه وأمواله: {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالإطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون: {لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً} أي: في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون؛ إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال: {اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} أي: من الخير مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه.
قال القاشاني: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة: {إِنِّي إِذاً} أي: إذا قلت ذلك: {لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: لبخس حقهم، وحط قدرهم، فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي كما هو الظاهر منهم، فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعد ما آمنوا كان ظالماً. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم.

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [32].
{قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: أطلته، أو أتيته بأنواعه {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا} أي: من العذاب: {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [33].
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء} يعني أنه ليس موكولاً إلي، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي: بالهرب أو بدفعه.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [34].
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: أيُّ شيء يجديه إبلاغي ونصحي بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب وإن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم؟!: {هُوَ رَبُّكُمْ} أي: مالك أمركم: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ} [35].
{أَمْ يَقُولُونَ} أي: قوم نوح: {افْتَرَاهُ} أي: النصح، فهو من تتمة نبأ نوح، أو ضمير الجمع لكفار مكة، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح، جيء به معترضاً في تضاعيفه، تحقيقاً له، وتأكيداً لوقوعه، وتشويقاً للسامعين إلى استماعه؛ إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي: إثم كسب ذنبي: {وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [36].
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ} أي: بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي: لا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي: من التكذيب والإيذاء، فقد انتهى أمرهم وحان وقت الانتقام منهم.
وقيل: المعنى لا تبتئس، أي: لإهلاكهم شفقة عليهم؛ لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك، فليسوا محلاً لشفقتك ولا لرحمتنا.

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} [37].
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} أي: للتخلص من عذابهم: {بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله عز وجل حفاظاً وحراساً، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة: {وَوَحْيِنَا} أي: إليك كيف تصنعها، وتعليمنا وإلهامنا. قيل لم يكن قبله سفينة: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: ولا تدعني، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} أي: محكوم عليهم بالطوفان، وقد وجب ذلك فلا سبيل إلى كفه، كقوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [38].
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل: تقديره وأخذ يصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} أي: هزئوا به، بمعالجة السفينة: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} أي: في صنع الفلك: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} أي: لجهلكم: {كَمَا تَسْخَرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [39].
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في الدنيا فيجعله محلاً للسخرية: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي: في الآخرة، يدوم معه الخزي.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [40].
{حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} أي: بإهلاك قومه. و{حَتَّى} غاية لقوله {ويصنع} وما بينهما حال من الضمير فيه، و{سخروا منه} جواب {كلما}: {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي: وجه الأرض، أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر- أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: حمي الوطيس والوطيس: التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه. وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب قد بينته آيات أخر، وهي: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11- 12] الآيات، ومما يؤيده شمولة لشدة الأمر من السماء والأرض فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط، وجلي أن الأمر كان أعم- والله أعلم-.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} أي: في السفينة: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} أي: صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض: {اثْنَيْنِ} أي: ذكراً وأنثى.
قال أبو البقاء: يقرأ {كُلِّ} بالإضافة وفيه وجهان:
أحدهما: أن مفعول {احمِل} {اثنين} و{مِن} حال.
والثاني: أن {مِن} زائدة والمفعول {كُلّ} و{اثنين} توكيد. ويقرأ {مِنْ كُلٍ} بالتنوين، فـ: {زوجين} مفعول {احمل} و{اثنين} توكيد له، و{مِن} متعلقة بـ: {احمل} أو حال. انتهى.
{وَأَهْلَكَ} أي: من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ} أي: وجب عليه: {الْقَوْلُ} أي: بالإغراق بسبب ظلمه {وَمَنْ آمَنَ} أي: احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في {آمن} محافظة على لفظ {مَنْ} للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله عز قائلاً: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [41].
{وَقَالَ} أي: نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين: {ارْكَبُواْ فِيهَا} أي: السفينة: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}. قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل {بسم الله} بـ: {اركبوا} حالاً من الواو، بمعنى: ركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما، بما في {بسم الله} من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان: أن يكون: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوا قال: بسم الله، فرست. وجوز أن يقحم الاسم كقوله:
ثم اسم السلام عليكما

ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرته وأمره. ومعنى قولنا: جملة مقتضبة أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير {الفلك} كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: من الآية 73] انتهى.
تنبيهات:
الأول: قرأ الإخوان- حمزة والكسائي وحفص- {مَجْرَاهَا} بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم {مرساها}. وقد قرأ ابن مسعود والثقفي {مَرْسَاهَا} بفتح الميم أيضاً. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.
الثاني: ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء التي للتأنيث، أو للإلحاق، أمَالهُ حمزة والكسائي وأبو عَمْرو، ووافقهم حفص في إمالة {مَجْرَاهَا} هنا، ولم يُملْ غيره.
الثالث: أخذ بعضهم من الوجه الأول في: {بِسْم اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وهو مؤيد بقول تعالى في سورة المؤمنون: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 28- 29]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 12- 13] الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضاً.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي: لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل لـ: {اركبوا} لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.
وقوله تعالى: